الجمعة 23 يوليو 2021 20:55 م بتوقيت القدس
نشرت مجلة “سبكتاتور” البريطانية تقريرا أعده من بيروت بول وود قال فيه إن الأزمة اللبنانية هي تحذير للغرب. ووصف رحلة له على الطريق السريع في بيروت “مررنا بطابور للوقود امتد على أكثر من ميلين، فقد ظل يمتد ويمتد، وكان السائقون يتصببون عرقا ويشتمون تحت الحر القاسي. وبعضهم انتهى الوقود في خزانه أثناء الانتظار، وكان عليهم دفع سياراتهم عندما يتحرك الطابور للأمام. وكان هناك أشخاص يعملون من داخل سياراتهم على أجهزة الكمبيوتر الشخصية أثناء انتظارهم الطويل”.
ويقول إن “طوابير الوقود أصبحت واقعا يوميا في الحياة اللبنانية، لكن هناك أمرا آخر، فقد أشار سائق محبط بعدما عرف أنني أجنبي، إلى الطابور أمامه وصرخ “لبنان”. وكان يلخص الغضب والقرف الذي يشعر به اللبنانيون على ما يحدث لبلدهم”.
ويعلق أن أزمة الوقود هي إشارة واحدة عن الكارثة الاقتصادية التي انهار فيها سعر العملة المحلية وخسرت 95% من قيمتها أمام الدولار خلال الـ 18 شهرا الماضية. وهذا يعني زيادة الأسعار. وتعني في بعض الأحيان -والفضل يعود لتداعيات تدخل الدولة في السوق- هبوطا في الأسعار ونقصا في البضائع مثل الوقود. وفي واحد من الطوابير، كان يقف هاني شيا، 60 عاما، بسيارته اللامعة “سوف”، وهي ليست ملكه، فهو يعمل كمدير موقع في مشاريع الإنشاءات الكبرى، ويحصل على راتب جيد. ولكن العمل توقف وتحول لسائق في منطقة تتمتع بالثراء الفاحش ولا يزال سكانها يملكون الدولارات. وكان هاني ينتظر منذ الساعة السادسة والنصف صباحا، ومضى على انتظاره أربع ساعات، وكرر نفس القائمة المعروفة لدى الطبقة المتوسطة: “كنا نصحو للتمتع بالحياة، وكنا نشتري الملابس لنبدو في حالة جيدة. ولكننا لا نقوم بأي من هذه الأمور التي تجلب الفرح، كل ما نريده هو النجاة”، وهو قلق على أولاده وأحفاده.
ويرى وود أن طوابير الوقود هي المكان المناسب للبداية في محاولة فهم ما يجري في البلد وعندما لم تعد تثق بالمال. وعندما كان يعد مقاله للنشر، وصل سعر الدولار إلى 22.000 ليرة في السوق السوداء أي 15 مرة عن السعر الرسمي وهو 1.500 ليرة. ولا تزال الحكومة تستخدم السعر للرسمي للدولار لكي تحسب الأسعار وهو ما ترك تداعيات مهمة. فملء خزان السيارة كان يكلف 60.000 ليرة أي 40 دولارا. ووصل الآن إلى 120.000 ليرة نظرا للسعر المحدد للوقود، لكن السعر الحقيقي هو خمسة أضعاف. ولو لم تكن تحصل على حصة في الوقود فأنت تحصل عليها بالانتظار. والنتيجة هي الفوضى. فخزان السيارة لا يزال يكلف 40 دولارا في الوضع الطبيعي ويجب على الحكومة دعم الاستيراد، لكن الحكومة ليس لديها العملة الصعبة، ولهذا لم يعد يصل إلى البلد من البضائع المدعمة إلا القليل.
وأغلقت معظم محطات الوقود أبوابها في وقت امتدت فيه الطوابير على أميال أكثر. والدواء هو وهم آخر تتمسك به الحكومة وهي أن العملة تساوي أضعاف قيمتها الحقيقية. ففي صيدلية بحي مسيحي، كانت صاحبتها بالمعطف الأبيض، وهي سيدة في منتصف العمر ترد تجمعا كبيرا من الزبائن غير الراضين بكلمة “لا”. وقالت لامرأة معها قائمة من أدوية السكري لزوجها “لا” لكل دواء عليها. وكان الجواب “لا” لكل زبون باستثناء رجل طلب دواء لحنجرته. وقالت هي وزملاؤها إنهم يردون الناس الذين قد يموتون في حالة عدم حصولهم على وصفاتهم الطبية. وقد يناشد الناس ويبكون لكن ليس في حيلتهم عمل أي شيء.
وقال شاب في معطف أبيض، تبين أنه طالب صيدلة إنه يخطط للهرب من لبنان. وأضاف أن ما بين 70- 75 من الطلاب في سنته الدراسية سيفعلون نفس الأمر “لا أستطيع العيش في هذا البلد”. ويضيف الكاتب أن النقص في الأدوية والوقود نابع من تهريب العصابات الإجرامية لها. وكشف تحقيق تلفزيوني أن دواء للقلب بات من الصعب الحصول عليه ظهر في الكونغو وبيع بنفس الملصقات عليه لصيدلية لبنانية. وهناك مجال للحصول على مال كبير من أدوية السرطان المهربة. وقال إن حاضنة أطفاله تعاني من سرطان الثدي، وعلاجها مكلف، فالأدوية التي تحتاجها تكلف 300.000 دولار من المصنعين الأمريكيين، لكنهم استطاعوا الحصول عليها بمبلغ 20.000 دولار أمريكي، بسعر الصرف الرسمي، 1.500 ليرة. لكنهم اشتروا الليرة من الصراف محمد بسعر مضاعف خمس مرات. ودفع الكاتب 100 مليون ليرة للإداري في المستشفى كجزء من فاتورة العلاج المؤقت. ويعلق قائلا إن الحاضنة كانت واحدة من قلة استفادوا من الانهيار الاقتصادي اللبناني، مع أنها قد لا تحصل على العلاج مرة أخرى لعدم توفره.
وشاهد معظم اللبنانيين قيمة رواتبهم تنخفض المرة بعد الأخرى بحيث لم يعودوا قادرين على شراء الاحتياجات الأساسية التي ارتفعت بمعدلات خيالية. وفي تقرير لوكالة الطفولة العالمية التابعة للأمم المتحدة “يونيسيف” كشف أن نسبة 30% من أطفال لبنان ينامون على أمعدة خاوية، بالإضافة لثلاثة أرباع من أصحاب البيوت لا طعام لديهم. وفي بيروت مجموعة من الأطفال المتسولين الذين يرتدون ثيابا رثة وبدا الهزال عليهم، يتسولون من السيارات ويقفون على الإشارات الضوئية.
ويقول وود “عندما تصل الأمور لهذه الحالة من السوء، تتساءل عن قدرة مؤسسات الدولة بل والدولة نفسها على البقاء. فمنذ العام الماضي لم يقدم الجيش اللبناني اللحم في وجبات الجنود العاملين. ويناشد قائد الجيش اللواء جوزيف عون الحكومات الأجنبية لإرسال الطعام حتى “يستطيع الجيش الوقوف على قدميه” كما قال في خطاب.
ومن هنا فالدعم القادم من مصر، بين عدة دول، يدعو لتواضع اللبنانيين الذين تعودوا على قيام المصريين بملء خزانات الوقود في سياراتهم وجمع النفايات. لكن الجيش بحاجة للمال، بدرجة بدأ فيها بتسيير رحلات سياحية بالمروحيات بـ 150 دولارا للتذكرة. وعندما يتم تحويل المبلغ لليرة بالسعر غير الرسمي فهو ضعف الراتب الشهري للجندي العادي”.
ووصل لبنان إلى هذا الحال لأن البنك المركزي، أو مصرف لبنان أبقى على قيمة العملة مرتفعة. وكان هذا ناجحا لأن المغتربين اللبنانيين واصلوا إرسال العملة الصعبة لإيداعها في البنوك اللبنانية، وذهبت بعض هذه الأموال لمصرف لبنان الذي استخدمها لتقوية الليرة في سوق العملة. وحصل المصرفيون على علاوات بعشرات الملايين من الدولارات. وحصل المودعون وبشكل يدعو للريبة على أسعار فائدة عالية والتي مولها البنك المصرفي عبر طباعة أوراق عملة جديدة. وظلت الأمور على ما يرام حتى بدأت إمدادات الدولار من الخارج تقل. وبدأ هذا بشكل بطيء بسبب الظروف الاقتصادية العالمية ثم زادت وتيرته بسبب وباء كورونا ثم انفجار مرفأ بيروت الذي دمر مناطق واسعة من العاصمة.
ووصلت حالة اليأس لدى البنوك لدرجة عرضها على المغتربين الأغنياء نسبة 25% من الموارد السنوية لو استمروا بإرسال المال للبنان. لكن طريقة “بونزي” انهارت في النهاية، وأغلقت البنوك أبوابها وبدأ المودعون الغاضبون بالطرق عليها. ويعلق الكاتب قائلا: “بعد 18 شهرا من الانهيار الاقتصادي، لم يحاسب أحد ولم يتنح أحد ولا حتى مدير مصرف لبنان ولا رؤساء البنوك أو الساسة”.
ويعتقد الكاتب “كل اللبنانيين متواطئون في هذه الكارثة، فقيمة الليرة المرتفعة كانت مقبولة بشكل واسع، وجعلت الجميع يشعرون بالغنى وأكثر مما كانوا عليه، قادرين على شراء السيارات الألمانية والحصول على الخادمات الإثيوبيات. ولكن الحكومة اللبنانية شلها الخوف لعمل ما يجب عمله”.
ونقل الكاتب عن مصرفي بارز قوله إن النخبة السياسية أنفقت كل دولار وكل الذهب قبل وقف الدعم “كانوا يعرفون أنهم سيقتلون لو لم يفعلوا”. وأضاف أن المشكلة في لبنان لديها قدرة على التحول بسرعة إلى طائفية. وهناك تقارير عن ميليشيات تحرس محطات الوقود في المناطق التي تسيطر عليها. و”سواء اندلعت حرب أهلية جديدة أم لا هنا هو شأن يتعلق بتاريخ البلد المأساوي ونخبته الحالية. ولكن هنا دروسا عامة للاقتصاديات الغربية المنشغلة بطباعة أوراق العملة للتعامل مع مشاكل الوباء، فهذا البلد يكشف عما يحدث عندما تتخلى عن العمل الممل ولكن الضروري في تقوية العملة، ولبنان هو تحذير لنا جميعا”.