أحاديث وتحليلات كثيرة دارت حول تأثير وتداعيات أحداث الانتفاضة الأخيرة والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، على مستقبل السلطة الفلسطينية، “سلطة أوسلو”، التي أصبحت فاقدة للشرعية عندما فشل برنامجها ولم تغيره وخسرت من رصيدها الكثير لصالح المقاومة، فقد همّشت الأحداث الأخيرة دور خط المفاوضات والمشاريع الاستسلامية والتنازلية، وأبرزت هشاشة هذا المسار ودقّت المسمار الأخير في نعش شرعية هذه “السلطة” الآخذ في التدهور والتآكل على مدار العقدين الماضيين. في المقابل كسب خط المقاومة وعلى رأسها حركة “حماس” الحرب وارتفع رصيدها، شعبيًا وعربيًا وإسلاميًا، وبات ينظر إليها دوليا بصورة مختلفة.
“سلطة أوسلو” هذه ُوجدت لتقوم بدورها كأداة وظيفية ووكيل محلي للاحتلال الإسرائيلي من خلال إيجاد المؤسسات والإدارات والوظائف التي توهم أنها سلطة ذات سيادة، ولم تكن يومًا من الأيام سلطة قادرة على تمثيل طموحات الشعب الفلسطيني، ظهر عجزها عندما تخلت عن واجبها بقيادة الشعب الثائر في الأحداث الأخيرة وفي التي سبقتها بطبيعة الحال، ولم تسجل أي علاقة لها بها، وبدت وكأنها غريبة عن الشارع الفلسطيني أكثر من أي وقت مضى في هذه الأحداث.
كانت “سلطة أوسلو” من أبرز الغائبين عن الأحداث الأخيرة، بما في ذلك الانتفاضة في القدس وعمليات الإخلاء من الشيخ جراح واجتياحات المستوطنين المسلحين للمسجد الأقصى. والأدهى من ذلك، أن “عباس” طلب من قادة الأمن عدم السماح بفقدان السيطرة على الوضع ومنع أي “عسكرة” للمواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل كانت تسعى قيادة “سلطة أوسلو”، وبشكل خاص رئيسها محمود عباس، كما ذكرت وسائل إعلام، لإخماد موجة من الغضب تكتسح جميع المستويات داخل حركة فتح. معظم هذه الموجة تدور فيما وراء الكواليس وتعبر عن نفسها عبر مجموعات الواتساب. حتى قال أحد الموالين لحركة فتح في تصريح إعلامي دون أن يذكر اسمه، والذي كان ذات يوم يحتل منصبًا رفيعًا فيها: “إن الناس في حركة فتح يشتاطون غضبًا. ما تفعله حماس الآن هو ما فعلته فتح أثناء الانتفاضة الأولى. كانت فتح تؤمن بالنضال ضد الاحتلال، بالتحرير، بالكفاح المسلح. ما فعله أبو مازن هو تفريغ حركة فتح من أي معنى، من أي غاية، من أي قتال في سبيل الحرية أو التحرير”. ويقول أيضًا: “إن تنظيم فتح على الأرض غير مسرور بأبي مازن ولا بجماعته. تريد القيادة الإبقاء على الوضع الراهن لأنهم يريدون المال، يريدون الحفاظ على استثماراتهم في صفقات الأراضي. يريدون إبقاء الاحتلال كما هو، لأنهم بدونه لا دور لهم”.
في الإجابة على سؤال “انهيار “سلطة أوسلو” هل بات وشيكا؟ يمكننا أن نعتمد، إلى جانب قرائن ودلالات عديدة، النظر إلى القراءة التحليلية للكاتب “ديفيد هيرست” في مقالة طويلة له نشرت في صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية مؤخرًا، حيث يستعرض فيها حالة التداعي لكل من الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية في رام الله بعد الانتفاضة الأخيرة والعدوان على قطاع غزة، ويُبين أن “سلطة أوسلو” باتت على وشك الانهيار خاصة وأنه يربط ذلك بانهيار “المنظومة الطبيعية للاحتلال الإسرائيلي” التي باتت بعد أربعة انتخابات غير حاسمة في حالة من الهيجان والاضطراب، بحسب وصفه.
يقف “هيرست” عند خطاب الرسالة “شديدة اللهجة” الموقعة من ثلاثة آلاف من الأكاديميين الفلسطينيين المطالبين بتنحي عباس عن رئاسة السلطة والدعوة إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وجاء في الخطاب: “بعد أن انتهت المعركة، أضاف عباس إلى سجله السياسي إخفاقًا آخر عندما تقاعس عن التضامن مع الشعب الفلسطيني في معاناته. فلم يعبأ بزيارة عائلات الشهداء في غزة والضفة الغربية. لقد كانت تلك فرصة وطنية وذهبية لزيارة قطاع غزة، واغتنام الفرصة واعتبارها بداية نهاية الانقسام، ولكن بدلًا من ذلك كشف عن عمق الشلل الذاتي الذي وضع الرئيس نفسه فيه”.
“هيرست” يرى من خلال قراءته لهذا الخطاب أنه لا يوجد لدى عباس ما يقوله للفلسطينيين لأنه لم ينجز لهم شيئاً يذكر. لم تحقق ثلاثة عقود من المحادثات بعد الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل شيئًا سوى تفكيك جميع المؤسسات الفلسطينية التي كانت مشاركة في الحوار: المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير والمجلس المركزي. ولذلك جاء على لسان الأكاديميين الفلسطينيين في خطابهم المذكور أعلاه: “لدينا الحق في التوقف الآن والسؤال: ما هي النتيجة؟ وما الذي حققه الرئيس لشعبه؟ ما هي الحقوق التي يملكها؟
في النهاية، فإنه رغم المناشدات العربية لمساعدة “السلطة” والتخوفات الأمريكية على مستقبلها والتحذيرات الإسرائيلية من انهيارها وتفكك أجهزتها الأمنية خشية تولي حركة “حماس” زمام الأمور التي “تحاول استغلال أي فوضى أمنية وسلطوية في الضفة الغربية في الضفة الغربية”، إلا أن “سلطة أوسلو” بات انهيارها أمرًا مؤكدًا، كما صرّح أكثر من مسؤول إسرائيلي، لأزمتها السياسية التي وصلت إلى طريق مسدود وللفساد المالي والإداري المستشري داخلها الذي يجعلها عاجزة عن تحقيق أهداف قضية الشعب الفلسطيني في التحرر من ربقة الاحتلال، الأمر الذي يفقدها الشرعية الفلسطينية والمرجعية والوطنية. فالأحداث الأخيرة حددت مستقبل “سلطة أوسلو” ومستقبل القضية الفلسطينية وحددت من هو الأقدر والأجدر بتمثيل وقيادة الشعب الفلسطيني.