السبت 24 اكتوبر 2020 20:57 م بتوقيت القدس
على مدار عمر القضية، والنضال العادل للفلسطينيين من أجل الاستقلال الوطني كل يوم يصل بالواقع إلى نقطة الحقيقة، العدالة والإنصاف في المنطقة تبدو ليست أكثر من حكايات تروى للتسلية، ومع الزمن ومواءمات المصالح قد تصبح من مخلفات التاريخ، هذا ما يحدث الآن في ملف الأسرى الذي أسقطه العرب من حساباتهم، بما فيهم من يمسكون بدفة الحكم في الأرض المحتلة.. لكن كيف؟ ولماذا؟!
آخر سلالة الصمود
آخر سلاسة الصمود، الذي كشف عن إهمال الملف في الواقع العربي، ماهر الأخرس، الذي يواجه شبح الموت بعد إضراب متواصل عن الطعام لمدة 77 يومًا، ولم تتناول قصته إلا عدد محدود من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، وأغلبها مؤسسات إخبارية دولية.
الأخرس يبلغ من العمر 49 عامًا، وهو معتقل إداري دون تهمة أو محاكمة، بموجب قانون الاعتقال الاداري الذي ورثته “إسرائيل” عن الانتداب البريطاني، ويمنحها الحق في اعتقال أي شخص لأشهر وسنوات دون تهمة محددة ودون محاكمة، وتجعل منه سيفًا مسلطًا على رقاب الفلسطينيين، فبمجرد الشك في شخص ما، يمكن للسلطات الإسرائيلية اعتقاله على الفور.
قبل الأخرس تفاجأ العالم بوفاة سعدي الغربلي 75 عامًا في مركز أساف هاروفه الطبي بعد تدهور صحته، كان قد جرى اعتقاله عام 1994 وحكم عليه بالسجن مدى الحياة، ولم يكن وحده بل توفي 5 أشخاص فقط هذا العام في السجون الإسرائيلية لأسباب عدة منها التعذيب والإهمال الطبي.
آخر الصفقات السياسية التي عرفها الملف، كان عام 2013، إذ أطلقت “إسرائيل” سراح 78 سجينًا فلسطينيًا محتجزًا منذ فترة طويلة كجزء من صفقة برعاية الولايات المتحدة لاستئناف محادثات السلام بين السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”، وبعد فشل المحادثات وتولي ترامب السلطة في الولايات المتحدة، تغيرت الصورة كليًا.
يمكن القول إن التراجع العربي في التعامل مع هذا الملف كما ينبغى، بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي، وتحديدًا مع التوقيع على اتفاقيات أوسلو وإسقاط عدد كبير من القضايا الملحة من أجندة المفاوضات من بينها نظام التقاضي الذي تعتمده “إسرائيل” في التعامل مع الفلسطينين وتعريضهم للموت البطيء في السجون دون محاكمة.
يكشف ملحق رقم 3 من أسلو الخاص بالأمور القانونية، أن “إسرائيل” لها وحدها الولاية الجنائية على المستوطنات وفي منطقة المنشآت العسكرية والجرائم التي يرتكبها إسرائليون في الإقليم – الإقليم مناطق السلطة الفلسطينية وفق تعريف الولاية في إعلان المبادئ ـ.
يعطي الاتفاق لـ”إسرائيل” سلطة القبض على الأفراد الذين يشتبه في ارتكابهم جرائم تقع في نطاق الولاية الجنائية الإسرائيلية بما في ذلك الاعتقال والمحاكمة، في الوقت الذي جُردت المحاكم الفلسطينية وسلطاتها القضائية من أي ولاية على القضايا المدنية التي يكون أحد أطرافها إسرائيليًا، وإذا خضع بالفعل وضعت الاتفاقية عراقيل عدة في سبيل الحصول على هذا المطلب، واشترطت موافقة مكتوبة من الإسرائيلي أولًا على الخضوع للمحاكمة داخل أروقة المحاكم الفلسطينية.
مع الوقت لم يعد في جعبة الجامعة العربية إلا الشجب والاستنكار، بعد أن أسقطت كل الخيارات الأخرى من على الطاولة، لا سيما بعد تشرذم الملف بين دول تصر على التعامل الأمني والسري والسياسي دون التطبيع، ودول أخرى ترى الحل في التطبيع المباشر والحاسم، ودول أخرى تناور بين الجميع وتتأرجح حسب مصالحها بما في ذلك السلطة الفلسطينية التي ضغطت بقوة على نادي الأسير الفلسطيني ما اضطره لإغلاق كل فروعه في المحافظات الشمالية باستثناء الفرع الرئيسي في محافظة رام الله، بسبب الأزمة المالية المتواصلة التي ترتبت على وقف السلطة إمداده بنفقات الموازنة منذ عامين.
بطولات فردية
أمام التراجع العربي الفلسطيني الرسمي التزامًا بالتعاهدات والتنسيقات مع “إسرائيل”، لم يتبق للفلسطينيين إلا النضال الفردي وخوض معارك من نوع خاص مثل معارك الأمعاء الخاوية التي أصبحت السلاح الوحيد الذي يملكه الأسرى بعد أن تضاءلت كل الخيارات أمامهم، فإما الحرية وإما الموت جوعًا وتجريس “إسرائيل” في المجتمع الدولي.
وإلإضراب عن الطعام من وسائل المقاومة السلمية التي يتبعها سجين أو مجموعة سجناء بغرض تحسين ظروف سجنهم أو لأسباب أخرى احتجاجية على أحكام يرونها باطلة وجائرة، أو للضغط على السلطات لتلبية مطالب أو الاعتراف بحقوقهم ولفت النظر إلى قضاياهم، وعمليًا عرف العالم أول إضراب فلسطيني عن الطعام في السجون الإسرائيلية، في سجن نابلس عام 1968.
كان الإضراب الأول احتجاجًا على الإهانة والضرب والإذلال التي تعرض لها المعتقلون على يد الجنود الإسرائيليين، واستمر لمدة 3 أيام للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية والإنسانية، وأحدث ضجة مناسبة في الضمير العالمي، الأمر الذي دعا المجلس الوطني الفلسطيني ـ السلطة العليا لمنظمة التحرير ـ عام 1974 لإقرار يوم الأسير الفلسطيني.
ويوم الأسير هو يوم تضامني مع الأسرى الفلسطينيين في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ويوافق 17 من أبريل/نيسان من كل عام، للوفاء للأسرى الفلسطينيين وتضحياتهم وشحذ الهمم وتوحيد الجهود لنصرتهم ومساندتهم ودعم حقهم في الحرية.
لكن هذه التضحيات رغم قوتها ورمزيتها الأخلاقية، لم تعد تجد الاهتمام الكافي دوليًا وحقوقيًا، لا سيما بعد لجوء بعض الدول العربية المحورية لتعديل مسارها في العلاقات مع “إسرائيل” واللجوء إلى التطبيع وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة، وبالتالي لم يعد التصعيد مطلوبًا، بل الحوار الكامل عبر القنوات الرسمية العربية ومصالح كل دولة.
أصبحت أي محاولة للتمرد من خلال الإضرابات عن الطعام، تفضى إلى الموت المحقق، إذ تستمر المضاعفات الصحية الناتجة عن الإضراب عن الطعام لفترة طويلة بعد انتهاء المحنة، وبعض الذين يتم تحريرهم ينتهى أجلهم بسبب الخلل في جميع وظائف الجسد لفترات طويلة، أو على أقل تقدير تحاصرهم الأمراض من كل اتجاه، ويصبح السجين السابق قعيد الفراش أو ملتزمًا منزله أو تتقيد قدرته على العطاء في المجال العام الذي سجن من أجله، هذا إن استجاب الاحتلال من الأساس لقضيته وانصاع لمطالبه.
تطورات الملف
تقول الملفات الرسمية لنادي الأسير الفلسطيني “غير حكومي” إن “إسرائيل” اعتقلت نحو مليون فلسطيني منذ عام 1967 – تاريخ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة – لكن يبلغ عدد المعتقلين بسجلات هذا العام نحو 5 آلاف معتقل.
بين المعتقلين نحو 130 طفلًا، في معتقلات عوفر غربي رام الله ومجدو والدامون شمالي “إسرائيل”، أما المعتقلون المرضى فيبلغ عددهم قرابة 700 معتقل، بينهم 300 حالة مرضية مزمنة بحاجة لعلاج مستمر، ومنهم 10 مرضى مصابين بالسرطان، كما يقبع في السجون 26 فلسطينيًا قبل اتفاق أوسلو عام 1993 الموقع بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، ويطلق عليهم قدامى الأسرى.
بين المعتقلين في السجون الإسرائيلية أيضًا 6 نواب سابقين في المجلس التشريعي الفلسطيني، مروان البرغوثي من حركة فتح، وأحمد سعدات وخالدة جرار من الجبهة الشعبية، ومحمد جمال النتشة وحسن يوسف محمد أبو طير من حركة حماس.
بحسب إحصاءات نادي الأسير استشهد 5 أسرى منذ مطلع 2019، من جراء الإهمال الطبي المتعمد والتعذيب، سلمت “إسرائيل” جثمان واحد فقط لذويه وهو عمر عوني يونس، بينما تحتجز الجثامين الأربع الأخرى في ثلاجات خاصة، كما يبلغ عدد المعتقلين من النساء 41 سيدة، منهن 31 جرى اعتقالهن هذا العام فقط بينهن 7 جريحات، وجميعهن يقبعن في سجن الدامون شمال “إسرائيل”.
ملف الأسرى ومع التطورات التي طرأت على المنطقة والواقع السياسي، أصبح في الإعلام العالمي يجري الحديث عنه من خلال تناول أزمة كل فرد باعتباره حالة إنسانية منفصلة، وربما هذا قد يصبح مقبولًا في ظل تحول البوصلة السياسية وتغير الاهتمامات وطرق الحل، لكن الغريب هو موقف السلطة الرسمية التي أهملت الملف تمامًا.
ولا يتوقف الإهمال على السياسة والتفاوض القوي مع “إسرائيل” على حرية السجناء، بل قطعت السلطة رواتب شهداء وأسرى ومحررين من قطاع غزة منذ بداية 2019 دون تبرير كاف، بحسب رئيس الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان عمار الدويك.
يؤكد الدويك إيقاف رواتب 2700 عائلة بالمخالفة للقانون الفلسطيني الذي أقره المجلس التشريعي عام 2003، ويستبعد ماهر بدوي الأمين العام للجنة الوطنية لأهالي الشهداء والجرحى أن يكون قرار قطع الرواتب جاء بسبب الأزمة المالية على خلفية قطع المساعدات الأمريكية، مرجحًا أن يكون الانتماء السياسي هو السبب، ويستدل على ذلك بعدم قطع أموال شهداء وأسرى الضفة الغربية.
منذ البدايات الأولى في عمر هذه القضية، وحرية السجناء تحتل المقدمة والأساس لأي إنسان يدافع عن الحق في الحرية حتى قبل الحق في الاستقلال الوطني، ولا يمكن تصور الدفاع عن الحقوق الفلسطينية بمعزل عن السجناء الذي يدفعون ثمن حماسهم الوطني وتضحياتهم للدفاع عن حرية وكرامة شعبهم الجريح.