الجمعة 02 اكتوبر 2020 07:59 م بتوقيت القدس
في مثل هذه الأيام بل وفي مثل هذه الساعات، كانت على أشدّها وفي أوجها انتفاضة القدس والأقصى، والتي اندلعت يوم 28/9/2000 وعرفت في التاريخ الفلسطيني باسم الانتفاضة الثانية. حيث انطلقت شرارتها الأولى مع قيام اريئيل شارون سفاح صبرا وشاتيلا ورئيس المعارضة الإسرائيلية يومها بتدنيس المسجد الأقصى المبارك، حيث كان رد شعبنا برفض هذه الزيارة ومواجهتها في ساحات المسجد الأقصى الأمر الذي أدى إلى إطلاق شرطة الاحتلال النار وقتل عدد من المصلين في ساحات الأقصى، وسرعان ما امتد لهيب الانتفاضة إلى كل القدس والضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني الذي قدّم ضريبة انتمائه لهذا الشعب وحبه للمسجد الأقصى ثلاثة عشر شهيدًا من شبابه، بينما زاد عدد شهداء شعبنا في تلك الانتفاضة نصرة للقدس والأقصى على خمسة آلاف شهيد بين الأعوام 2000-2005.
عشرون عامًا مرّت على انتفاضة القدس والأقصى ظهر خلالها جليًا من كان مخلصًا لهذه القضية ومن كان عكس ذلك، عرف فيها من بكى ممن تباكى. إنه لا يشترط الانتظار ليوم القيامة حتى تظهر حقيقة هؤلاء ومعرفة خبايا نفوسهم، حيث يوم القيامة سيكون يوم الفضيحة بالنسبة لبعض الناس. صحيح أنه لم يرد عند المفسرين اسم يوم الفضيحة مثل يوم القيامة، يوم التغابن، يوم الحسرة، يوم التلاق وغيرها، لكن وكما قال الإمام القرطبي: “ولا يمتنع أن تسمى يوم القيامة بأسماء غير ما ذكر بحسب الأحوال الكائنة فيه من الازدحام والتضايق واختلاف الأقدام والخزي والهوان والذل والاحتقار والصغار والانكسار ويوم الميقات والمرصاد إلى غير ذلك من الأسماء”.
فيوم القيامة هو {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} آية 9 سورة الطارق، فتتكشف النوايا والضمائر وهو الذي يتبرأ فيه الأصدقاء من أصدقائهم وأوليائهم، فيفضح بعضهم بعضًا بتراشق التهم سعيًا للنجاة بأنفسهم {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} آية 38 سورة الأعراف. لا بل إن جلد الإنسان وجوارحه تتبرأ منه وتفضح أفعاله {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} آية 21 سورة فصلت. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} آية 24 سورة النور.
إنه وفي مقابل تراشق هؤلاء وفضح بعضهم بعضًا فإنه ستر الله ومغفرته على الصادقين والمخلصين كما أورد البخاري في حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: عملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ويقول: عملت كذا وكذا. فيقول: نعم، فيقرره ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم”.
إنه الفارق الكبير إذن بين من يسترهم الله تعالى رغم ذنوبهم لأنهم كانوا مخلصين وصادقين، وبين من يفضحهم الله يوم القيامة بفضح بعضهم بعضًا وهم الذين ظنوا أنه لن يأتي يوم فيه تبلى السرائر وتتكشف الحقائق وتهتك أستار الكذب.
أقول إنه لا يشترط الانتظار ليوم القيامة يوم الفضيحة حتى يفتضح البعض ويظهروا على حقيقتهم، لأن القدس هي من تقوم بالمهمة وتؤدي الدور وكيف لا وللقدس علاقة مباشرة بيوم القيامة وأحداثه، وقد قال بعض العلماء والمفسرون ومنهم أبو عبد الله المنهاجي في تفسير قول الله تعالى {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} آية 14 سورة الروم: “توضع الموازين يوم القيامة ببيت المقدس، وينفخ إسرافيل في الصور ببيت المقدس، ويتفرق الناس من بيت المقدس إلى الجنة والنار”. وكما قال ابن الجوزي في كتاب فضائل القدس عن كعب رضي الله عنه: “العرض والحساب بيت المقدس”.
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: “صلاة في مسجدي هذا أفضل بأربع صلوات فيه. ولنعم المصلي في أرض المحشر والمنشر. وليأتين على الناس زمان ولقيد سوط أو قال قوس الرجل حيث يرى منه بيت المقدس خير له أو أحب إليه من الدنيا جميعًا”. أخرجه الحاكم والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الألباني “وهو كما قالا”. وفي حديث سمره بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لنا: “إنكم تحشرون إلى بيت المقدس ثم تجتمعون يوم القيامة”. أخرجه البزار والطبراني وقال حديث حسن. وهذين الحديثين من رسالة “صحيح فضائل الشام وبيت المقدس” لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحيم خليل.
إنها القدس التي يتآمر عليها اليوم عرب ومسلمون ويطعنونها طعنات غادرة بدل أن يكونوا هم حماتها ومن ينتصرون لها. فيا قدس ويا أقصى، كم صلّى في جوفك منافق، وكم هتف باسمك شيطان، وكم تباكى عليك عميل ولو اطلعت على قلوبهم لوجدتها قلوب سماسرة تحمل أطماع نخاسين. إنها القدس أصيلة وشريفة وطاهرة، إنها شقيقة مكة والمدينة أيها السمسار المارق:
القدس يا نخاس سيف الطعان وفارس الحلبة في المعمعان
القدس يا مارق أنشودة تهتف باسم الله طول الزمان
القدس أمٌ طهرها غامر وحضنها بعض رياض الجنان
ليست بغيًا ترتضي بالخنا ولا جبانًا ينحني للهوان
لمّا كان المشركون ومعهم المنافقون يهجون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتطاولون عليه، وقد سخّروا لذلك شعراءهم وفصحاءهم، عندها خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم حسّان بن ثابت رضي الله عنه الشاعر المسلم الصادق قائلًا له: “اهجهم يا حسان وجبريل معك”. “اهجهم وروح القدس معك”.
وإننا اليوم نقول للقدس وقد شرّفها الله أن تكون هي الفاضحة والكاشفة للسماسرة والعملاء والمتسلقين. افضحيهم يا قدس، افضحيهم وروح القدس معك.
وكيف لا يكون معك جبريل، وكيف لا يكون معك روح القدس وهو الذي كان رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، وهو الذي قدّمه ليصلي بالأنبياء إمامًا في المسجد الأقصى في بيت المقدس.
افضحيهم يا قدس ومعك روح القدس، كما فضحت المتآمرين والجبناء والعملاء من الفاطميين العبيديين الذين سحبوا حاميتهم منك وتركوك وحيدة أمام همجية الصليبيين، وقد ذبحوا في ساحات مسجدك سبعين ألفًا من الموحدين المسلمين، ولم ينقذك يومها ولم يَعد إليك كرامتك إلا مشروع التحرير الذي بدأه عماد الدين زنكي ثم أكمله ابنه نور الدين ثم كان الفتح على يد صلاح الدين الذي كان إذا سئل عن سرّ عدم تبسمه فكان يقول: إني أخجل من الله أن أضحك وما يزال المسجد الاقصى بيد الصليبيين.
افضحي يا قدس وروح القدس معك هؤلاء الذين يوقّعون معاهدات عار وشنار فيما تبقين أنت أسيرة بيد الاحتلال الإسرائيلي ويزعمون أن كل ذلك من أجلك يا قدس، ولكنك عرفت أنهم كاذبون وسماسرة، وهم يدّعون فرحتهم بالقدوم إليك والصلاة فيك، وهم الذين اشتروا بيوتك وعقاراتك وجعلوها تقع في يد المستوطنين المغتصبين. لقد كان مشروع صلاح الدين هو التحرير ومشروع هؤلاء العملاء هو التطبيع. لم يرض صلاح الدين بغير السيادة وطرد المحتل، ويرضى هؤلاء بالعبادة تحت حراب بل تحت أقدام المحتل.
افضحيهم يا قدس معك روح القدس، أولئك الذين تآمروا عليك في نكبة 1948، فاحتل الجزء الغربي منك ثم أكملوا مشوار تآمرهم، فاحتل الجزء الشرقي منك وفيه المسجد الأقصى بيد الاحتلال الصهيوني، كما سلّموك يومًا للاحتلال الصليبي.
افضحيهم يا قدس يوم أن حرق منبرك ومسجدك يوم 21/8/1969 ولم يجد أدعياء الثورية والقومية ضرورة حتى لعقد قمة عربية، وإنما اكتفت خمس دول للاجتماع في القاهرة يوم 3/9/1969 واكتفوا بالانتظار لقمة الرباط التي كانت مقررة سلفًا ليوم 21/12/1969، لا بل إنهم لمّا دعوا لعقد مؤتمر قمة إسلامي في آذار 1970 فقد قاطعه جمال عبد الناصر بدعوى المرض وأرسل مكانه أنور السادات، حيث تؤكد الدراسة القيّمة التي أصدرها الأستاذ الدكتور محسن محمد الصالح عن مركز الزيتونة حول إحراق المسجد الأقصى وفيها تؤكد وثائق رسمية أن تغيّب عبد الناصر والرئيس العراقي كان بسبب التخوف من تأسيس تحالف إسلامي ورافضًا ومتحفظًا من تأكيد البُعد الإسلامي للصراع مع إسرائيل على حساب القومية العربية.
افضحيهم يا قدس وروح القدس معك وهم الذين لم يجيدوا يومها إلّا بيانات الشجب والاستنكار، الأمر الذي جعل جولدا مئير رئيسة وزراء إسرائيل أن تقول: “لقد طار النوم من عيني ليلتها خشية من ردة فعل العرب والمسلمين، فلمّا لم أسمع إلا بيانات الشجب والاستنكار اطمأن قلبي وهدأ روعي”. فأنت يا قدس بالنسبة لهم لا تستحقين حتى مؤتمر.
إنها القدس قبلتكم ،مسرى رسولكم. إنها عرضكم، شرفكم. إنها أختكم، أمكم، عقيدتكم:
فضوّا بكارتها داسوا كرامتها وهام في مقلتيها البؤس والعدم
جزوا ظفائرها، هدّوا منابرها وفي آذاننا عنها بها صمم
نادت وامعتصماه أدرك عقيلتكم قال الأشاوس نامي مات معتصم
لكن هناك البديل الفذّ في يدنا حتى يسود الحق والعدل والسّلَم
مفاوضات وتصريح ومؤتمر كذا عناق يليه الوعد والقسم
وإن تمادى العدى فالحلّ تطبيع نطوي به ما عاثوا وما أثموا
افضحيهم يا قدس ومعك روح القدس، واهتك ستر الأنذال والجبناء والقوّادين والسماسرة يا أقصى، يوم أصبح من يبيع ويفرّط ويطبّع هو العقلاني وصاحب النظرة الثاقبة والحريص عليكَ وعليكِ، بينما من يدافع عنك يا قدس ومن لا يقبل التنازل عنك يا أقصى ولا تقسيمك ولا الشراكة فيك، كي تظل أنت قبلة المسلمين الأولى ومسجدهم وحدهم ليس لغيرهم نصيب ولا حق ولو في ذرة تراب واحدة فيك، لقد أصبح هؤلاء بعيون عرب ومسلمين أنذال وسماسرة، إرهابيون ومتطرفون ولا يريدون السلام:
حكموا عليّ بأنني إرهابي قالوا بأني قد فقدت صوابي
زعموا بأني مسلم متطرف والويل كل الويل للإرهابي
حكموا بقتلي حيث إني مسلم أبغي الكرامة أو يهال ترابي
إن كان عزّ القدس صار تطرفًا فأنا أبيح تطرفي لصحابي
يا أيها الدخلاء هذا موقفي لن يدخل الجبناء من أبوابي
يا أيها العقلاء هذا مذهبي أمشي بهدي محمد وكتابي
وإني لفرد من أسود محمد والأسد تخشى في نظام الغاب.
إذا أردت أن تعرف مقامك فانظر حيث أقامك
قال ابن عطاء الله: “مقامك حيث أقامك”. أي إذا أردت أن تعرف قدرك وقيمتك عند الله فانظر أين أقامك وبماذا أشغلك. فإذا أشغلك بالقرآن فاعلم أنه يريد أن يحدّثك، وإذا أشغلك بالطاعات فاعلم انه يريد قربك، وإذا أشغلك بالدنيا فاعلم أنه يريد أن يبعدك، وإذا أشغلك بالدعاء فاعلم أنه يريد أن يعطيك، وإذا أشغلك بالناس فاعلم أنه يريد أن يهينك.
فأي مقام يا ترى لمن أقام ليس على نصرة القدس، وإنما على خذلانها. وليس على تحرير القدس والأقصى، وإنما على التطبيع مع من يدنسها. وليس على من يصرّ أن الأقصى كله لنا ولا حق لغيرنا فيه، وإنما لمن أقام على الإعلان أن الأقصى هو لكل الديانات السماوية الحق بالصلاة فيه.
وإذا كان التاريخ قد قال عن القدس والأقصى أنه الذي أسري إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم وفتحه عمر بن الخطاب، وحرّره من الصليبيين صلاح الدين، وأضاع ملكه لأجل عدم التنازل والتفريط فيه السلطان عبد الحميد، فأي مقام يكون للذي ليس مع هؤلاء وإنما مع شاور والصالح إسماعيل وجمال عبد الناصر ومحمد بن سلمان ومحمد ابن زايد.
فلا تحزني يا قدس، ولا تحزن يا أقصى فليس أن معك روح القدس، بل إن معك جبريل وميكائيل وإسرافيل الذي فيك سينفخ في الصور. ليس أن معك آدم وإبراهيم وكل النبيين صلّوا فيك خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن معك عيسى عليه السلام الذي سيصلي مأمومًا خلف إمام المسلمين يوم تكوني عاصمة دولة خلافتهم.
لا تحزني يا قدس فمعك مكة والمدينة والقاهرة واسطنبول وجاكرتا والجزائر وبغداد.
لا تحزن يا أقصى فمعك المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأزهر والمسجد الأموي ومسجد آيا صوفيا.
فلا تحزني يا قدس ولا تبتأسي لمن حرموا أن يكونوا في قائمة الفخار، وارتضوا أن يكونوا في قائمة العار، لمن حرموا أن يكونوا مع المحرّرين، وكانوا مع المطبعون، لمن حرموا أن يسلّوا سيوفهم معك، وإنما بخناجر الغدر طعنوك
نفسي فدا أمتي كم ألجموا فمها وكم عنت لذوي الألقاب والرتب
وألهبوا ظهرها من بعد عزتها حتى تقدس أبطالًا من الخشب
وهم أرانب إن داع الجهاد دعا لا يحسنون سوى التدجيل والكذب
نحن الطليعة والتاريخ يعرفنا فكيف تجعلنا الأحداث في الذنب
وأنت يا قدسنا لا تيأسي فلقد ضقنا بغطرسة الأنذال فارتقبي
لا تحزن يا أقصى فإن لك أحبابًا أبطالًا لا ينامون على الضيّم ولا يرضون بالذل وقد ضاقوا بغطرسة الأنذال والجبناء والعملاء.
ولا تحزني يا قدس فإن يوم خلاصك قريب قريب، وسيجتمع شملك مع من تحبين بإذن الله تعالى. بل إنك ستكونين أنت عاصمة خلافتنا الإسلامية الراشدة القريبة بإذن الله تعالى، وكيف تحزني وأنت القدس ومعك روح القدس؟
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا..
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون