السبت 26 سبتمبر 2020 08:06 م بتوقيت القدس
إن خطوات “التطبيع” مع إسرائيل بقيادة الإمارات العربية المتحدة ثم البحرين، أعقبها بشكل غريب مشاركة كل من صربيا وكوسوفا من منطقة البلقان؛ لكن هذه الخطوات التي اتخذتها الدولتان الخليجيتان إلى جانب دولتي البلقان مريبة، إذ إنها تقوم على برنامج يقوّض كل ما هو طبيعي واعتيادي.
فيما يتعلق بانضمام دولتي البلقان إلى ركب التطبيع، فإن المعاملة المهينة التي تعرضت لها أثناء التوقيع على اتفاق التطبيع يشير بشكل واضح إلى أن ذلك تم تحت التهديد والضغوط وفرض عليهما. في المقابل، كان سلوك المسؤولين البحرينيين والإماراتيين مع ترامب أثناء التوقيع على الاتفاق أبعد ما يكون عن تصرفات الإنسان الطبيعي.
هذا يشير في الحقيقة إلى أن اتفاق التطبيع أبرم في ظروف غير اعتيادية تفتقر إلى أسس العلاقات الإنسانية الطبيعية. كما يشير الإطار العام إلى أن هذه الدول لم تختر بمحض إرادتها تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لعل أبرز مثال على ذلك السودان الذي يُتوقع أن ينسج على نفس المنوال، وإن كان لم يوقع على اتفاق التطبيع بعد، وفي الوقت الذي كنت أكتب فيه هذا المقال، اطلعت على خبر نشرته صحيفة “والا” الإسرائيلية تحدث عن عقد اجتماع يضم مسؤولين إسرائيليين وآخرين سودانيين في أبو ظبي برعاية إماراتية وأميركية، وحسب هذا الخبر، فإن الولايات المتحدة تتعهد بإزالة السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب مقابل التطبيع.
لكم أن تتخيلوا أن إدراج السودان ضمن هذه القائمة، وما ترتب عنه من إجراءات كان بمثابة عقاب لشعب عظيم تُرك الملايين من أفراده دون غذاء أو دواء؛ ليعانوا الأمرين من مجاعات وفقر وأمراض. لكن هذه الويلات ليس لها أي أهمية بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية أو الدول الأوروبية، وبالطبع لم تكترث لها إسرائيل. لم تطرأ أي تغييرات تذكر على وضع السودان سواء من حيث سياسته أو مواقفه؛ لكن مقابل اتفاق التطبيع سيتخلص من الإجراءات المتخذة ضده.
هذا هو الابتزاز الدولي الذي يصب في مصلحة إسرائيل ويبرئ كل من يطبع العلاقات معها من جرائم الإرهاب، لا أحد في العالم يجهل ما ارتكبته الإمارات العربية المتحدة من جرائم إنسانية وإرهاب في اليمن؛ لكن التطبيع مع إسرائيل سيكون كفيلا بتبرئتها من كافة التهم الموجهة لها.
لم تنضم المملكة العربية السعودية حتى الآن إلى مهزلة التطبيع هذه؛ لكن تأدية محمد بن سلمان لواجبه ودوره بدفعه البحرين ودعمه لها في هذه العملية كفيل للتستر على ما اقترفه من ممارسات تنتهك حقوق الإنسان، وتلميع صورته أمام العالم. يبدو أن اتفاق التطبيع مع إسرائيل أصبح مثل صك الغفران، الذي يطهر حامله من جميع ذنوبه. أما الدول التي لا تملك ما يطهرها من ذنوبها، فتُساوَم على حريتها واستقلاليتها من خلال الابتزاز بالمجاعة والفقر.
إن الدول التي التحقت بركب التطبيع قامت بأمرين في سبيل تبرير ما فعلته وإظهار أنه أمر طبيعي؛ أولهما خلق تصور بأن الدور سيأتي على قطر لتنضم لهم، لا سيما أنها معروفة لكونها من أكثر الدول معارضة لهذه الحملة التطبيعية، ومن شأن تطبيع قطر مع إسرائيل أن يريح هذه الدول، ويجعلها تثبت أن هذه المعاهدة التطبيعية طبيعية. مثلهم مثل المجرمين الذين يرغبون بتوريط الصالحين في الجرائم ليبرروا للناس أن ما ارتكبته أيديهم أمر طبيعي، وعلى حد قول دوستوفيسكي، إن المتعة الأكبر لجميع المذنبين أن يكون البابا نفسه قد ارتكب الذنوب نفسها؛ لكن الأخبار التي تؤكد أن موقف أمير قطر ثابت ولم يتغير تجاه إسرائيل سبب لهم خيبة أمل، وتركهم يتخبطون في الذل لوحدهم.
ثانيهما، زعم هذه الدول أن تركيا هي أول الدول الإسلامية التي اعترفت بدولة إسرائيل، وتملك علاقات اعتيادية معها، خاصة أن تركيا كانت من أكثر الدول انتقادا لهذه الحملة التطبيعية على المستوى الرسمي؛ لكن العلاقات التركية الإسرائيلية لا تشبه أبدا حملة التطبيع، التي تقودها دولة الإمارات اليوم، وذلك بغض النظر عن حقيقة أن تركيا فعلا اعترفت بإسرائيل عند تأسيسها، ولا شك أن من كان يحكم تركيا في تلك المرحلة تعجل باتخاذ مثل هذا القرار، حتى أن العلاقات التركية الإسرائيلية المستمرة حتى يومنا يعود تاريخها إلى ذات الحقبة الزمنية، ولطالما كانت العلاقات التركية الإسرائيلية متعثرة حتى قبل تقلد حزب العدالة والتنمية زمام السلطة.
في عهد حزب العدالة والتنمية، لم تتطور العلاقات التركية الإسرائيلية؛ بل تشهد تراجعا مستمرا، ناهيك عن أن تركيا وظفت هذه العلاقات لخدمة مصلحة الفلسطينيين، وخلال 20 عاما الأخيرة، لم تتوانَ تركيا عن التنديد بشكل علني ورسمي بجميع الانتهاكات الإسرائيلية وخطوات ضم الأراضي، والحث على اتخاذ إجراءات ضدها على المستوى الدولي.
وخلال 11 عاما الأخيرة، يبدو واضحا ما آلت إليه العلاقات التركية الإسرائيلية التي كانت طبيعية فيما مضى، حيث ألغيت الاتفاقات في مجال الدفاع المشترك، واستخدام الطيران الإسرائيلي للمجال الجوي التركي للتدريب، واتفاقات شراء الأسلحة من إسرائيل وغيرها.
إن الثورة في الصناعات العسكرية التركية التي نشهدها اليوم والنجاح الفائق في مكافحة الإرهاب ندين به إلى قطع التعاون المشترك مع إسرائيل في هذا المجال. في الواقع، لم تخسر تركيا شيئا بتقليصها نطاق العلاقات مع إسرائيل -بل على العكس من ذلك- ربحت الكثير وعلى رأس لك النجاح في مجال مكافحة الإرهاب، فقد كانت عمليات الاستكشاف التي كانت تجريها تركيا من خلال الطائرات المسيرة إسرائيلية الصنع تخدم المنظمات الإرهابية أكثر من تركيا، ذلك أن المعلومات كانت تصل إلى أيدي المنظمات الإرهابية قبل أن تصل إلى تركيا، وهو ما يفسر سبب استهداف الأسلحة، التي كانت تشتريها تركيا من إسرائيل، للأهداف الخاطئة مثل الجبال والصخور.
بعد تدهور العلاقات التركية الإسرائيلية، وبعد أن أصبحت مجبرة على تصنيع عتادها العسكري بنفسها، حققت تركيا نجاحات مهمة في مجال الصناعات العسكرية. اليوم، لم يعد حزب العمال الكردستاني الإرهابي ضمن أوليات تركيا، وذلك بفضل تدهور العلاقات مع إسرائيل، وهذا في الحقيقة المثال الذي ينبغي على الإمارات العربية المتحدة وغيرها من الدول التي وافقت على التطبيع أن تحتذي به.
اليوم ومع هذا المستوى من العلاقات، لم تتجاهل تركيا بأي شكل من الأشكال الانتهاكات ومحاولات الضم وصفقة القرن، وهي تواصل الكفاح والنضال لصالح فلسطين، وفي الوقت الذي وقعت فيه الإمارات العربية اتفاق التطبيع مع إسرائيل، تشهد فلسطين والعالم الإسلامي بأسره أكثر الحملات الإسرائيلية عنجهية وشراسة وعدوانية؛ فهل تراجعت إسرائيل عن أي من سياساتها العدوانية بعد توقيع اتفاق التطبيع مع الإمارات؟ وهل ساهم ذلك في تحقيق أي مكاسب للطرف الفلسطيني؟ وهل هناك أي مطالب تصب لصالح الفلسطينيين؟
لا مجال لمقارنة هذا الاتفاق مع العلاقات التركية الإسرائيلية، وحتى في أسوأ اللحظات في تاريخ علاقاتها مع إسرائيل، لم تلحق تركيا بنفسها هذا القدر من العار والإهانة. في المقابل، اختارت هذه الدول في أفضل الأوقات، وحتى مع امتلاك القوة لوضع حد للاحتلال والظلم، العار والمهانة.
إن المقاربة التي تتبعها هذه الدول لتوطيد علاقتها بإسرائيل تحاول تقديم اتفاق التطبيع على أنه نجاح وفخر، وبإظهار مثل هذا الحماس والفرح المخزي والعبثي، لا تعدو أن تكون هذه الدول سوى خدم ذليلين لإسرائيل.