من دون الاستخفاف بقدراتها العسكرية ونزعتها العدوانية، لكن يبدو أن إسرائيل باتت تشعر، وتلمس أيضا، فقدانها السيطرة على جبهتيها الجنوبية، مقابل قطاع غزة، والشمالية، مقابل سورية وبصورة ضمنية مقابل لبنان أيضا. فإطلاق نيران قناصة فلسطينيين باتجاه الجنود الإسرائيليين، عند السياج الأمني المحيط بالقطاع، أخذت تتكرر وأدت إلى مقتل جندي، يوم الجمعة الماضي، وإصابة ضابط، أمس الأربعاء. وفي الجبهة السورية، التي تعتبر إسرائيل أنها الأهم والأخطر، تم في الأيام الأخيرة إطلاق صاروخين من سورية، فشلت منظومة "مقلاع داود" في اعتراضهما، وإسقاط طائرة "سوخوي" بادعاء دخولها أجواء هضبة الجولان المحتلة، وبالأمس سقط صاروخان أطلقهما تنظيم "داعش" في بحيرة طبرية ولم تعمل منظومات اعتراض الصواريخ الإسرائيلية لاعتراضهما.
والرأي السائد هو أن هذه الصواريخ وطائرة الـ"سوخوي" لم تكن تستهدف إسرائيل وإنما هي بمثابة "نيران طائشة". لكن في الفترة الأخيرة، أسقطت إسرائيل طائرتين مسيرتين دخلتا إلى أجواء الجليل، أطلقتهما قوات إيرانية من سورية. ولا يمكن اعتبارهما كـ"نيران طائشة" لأنهما توغلتا كيلومترات طويلة في الأجواء الإسرائيلية وليس في الجولان فقط.
وترى تحليلات ودراسات إسرائيلية أن هذا الوضع يمكن أن يتصاعد ويصبح أخطر مما هو عليه الآن. وكتب المحلل العسكري في موقع "يديعوت أحرونوت" الالكتروني، رون بن يشاي، اليوم الخميس، أن "إستراتيجية الردع والاحتواء التي تمارسها الحكومة والجيش الإسرائيلي وصلت إلى طريق مسدود. لم ينجحوا بالتوصل مع قطاع غزة إلى تهدئة مستقرة ومنح شعور بالأمن لسكان النقب منذ حوالي أربعة شهور، وعمليا منذ 30 آذار/مارس، عندما بدأت المظاهرات (مسيرة العودة) عند السياج. وفي الشمال، لا ينجحون في وقف التمركز العسكري الإيراني في الأراضي السورية، وإنما إبطائه وحسب".
غزة: تأثير عكسي للضربات الإسرائيلية
اعتبر بن يشاي أن "أسلوب العصي العسكرية والجزر الاقتصادي الذي تمارسه إسرائيل مقابل حماس حاليا قد أفلس، ويؤكدون ذلك سكان النقب الغربي التي تجعلهم صافرات الإنذار يجرون نحو الغرف الآمنة كل يومين تقريبا". وتابع بلهجة يائسة أن "الضربات التي يرد بها الجيش الإسرائيلي، ورغم أنها مؤلمة جدا لحماس، ليس فقط أنها لا تؤدي إلى وقف الإزعاج بواسطة البالونات الحارقة، وإنما لا تدفع حماس لوقف إطلاق النار. ومفعول وقف دخول الشاحنات (المحملة بالبضائع) في كرم أبو سالم مثل كاسات هواء لميت، والمصريون أيضا لا ينجحون في التاثير على حماس، وبالتأكيد ليس لجمها".
وأضاف بن يشاي أن "جهود المصريين ومبعوث الأمم المتحدة ملادينوف للتوصل إلى تهدئة تفشل مرة تلو الأخرى. وقد حان الوقت كي ندرك أنه لا يمكن توقع إحراز التهدئة بواسطتهم. ففي كل مرة ينزل فيها الجيش الإسرائيلي ضربات على البنية التحتية للذراع العسكري، يهرول قادة حماس إلى مدير المخابرات المصرية وملادينوف اللذين يلجمون إسرائيل لصالحهم".
ورجح أن نيران القناصة التي أطلقت على الضابط الإسرائيلي، أمس، أطلقها عناصر من تنظيمات جهادية – سلفية، يطلق عليها الجيش الإسرائيلي تسمية "العاقّون" لأنهم لا ينصاعون لحماس، أو أنهم ينتمون لجناح متطرف في حماس. وأضاف أن كلتا المجموعتين تنفذان عمليات كهذه بهدف جرّ الجيش الإسرائيلي إلى الدخول إلى غزة، ويأملون أنه في هذه الحالة سيتمكنون من تكبيد الجيش خسائر وأسر جنود من أجل تحرير أسرى في السجون الإسرائيلية.
وأضاف بن يشاي أن حماس لا تريد تهدئة ولن تقدم تنازلات حتى تحقق الحركة أهدافها. "حماس تريد مالا من السلطة الفلسطينية، كهرباء وماء من إسرائيل ومعبر رفح مفتوح من مصر. وإسرائيل مستعدة لتزويد حماس بمساعدات إنسانية شريطة وقف إرهاب النيران، وإعادة إعمار القطاع أيضا إذا أعادت حماس جثتي الجنديين ومواطنين إسرائيليين لديها. لكن حماس ليست مستعدة للموافقة على ذلك، ولذلك تسمح للعاقّين بالعمل بوتير منخفضة، وفي موازاة ذلك تفعّل خلايا إطلاق الطائرات الورقية والبالونات الحارقة. وهكذا تحافظ حماس على التوتر على طول الحدود، وعلى حاجة إسرائيل ومصر والأمم المتحدة للاستجابة لمطالبها".
سورية: روسيا لن تخرج إيران قبل استقرار النظام
أشار بن يشاي إلى أن "إيران وأتباعها، ورغم الضربات التي يتلقونها (من إسرائيل) عدة مرات في الأسبوع، يواصلون جهودهم لتحويل سورية إلى جبهة منفصلة ضد إسرائيل، وهي جبهة يطلق منها صواريخ أرض – أرض دقيقة، وصواريخ شاطئ – بحر دقيقة، وكذلك منظومات مضادة للطائرات وصواريخ متطورة. وكل هذا سيقلص حرية عمل سلاح الجو ويضع صعوبات أمام إسرائيل من أجل مواجهة آلاف الصواريخ والقذائف الصاروخية التي جمعها حزب الله في لبنان، والتي يجمعها الإيرانيون في سورية. والحوار الدبلوماسي المكثف التي تجريه إسرائيل مع الروس وتبادل إطلاق النار مع الجيش السوري هما حل حزئي ولا يمنع النيران الطائشة".
وأضاف أن إسقاط إسرائيل للطائرة السورية، هذا الأسبوع، "يردع نظام بشار الأسد، لكن ليس الإيرانيين. والأحداث في الغداة، إطلاق الصاروخيان من سورية إلى بحيرة طبرية وقنص الضابط الإسرائيلي هند حدود غزة، تجسد جيدا خطورة المشكلةن التي يمكن وصفها بكلمة واحدة: فوضى. والأمور خرجت عن السيطرة".
واعتبر بن يشاي أنه بالإمكان حل الوضع في غزة من خلال اجتياح للقطاع، وبعد ذلك تكون إسرائيل أمام خيارين: القضاء على حكم حماس واحتلال القطاع لفترة ما وانتظار قدوم حكم آخر، أو الانسحاب بعد تدمير معظم قدرات حماس العسكرية "والعودة إلى الوضع الذي كنا فيه قبل العملية العسكرية. وكلا الخيارين لا يضمنان هدوءا لسكان جنوب إسرائيل في الأمد البعيد". وأضاف أنه من الجهة، هناك "التسوية المدنية الاقتصادية التي ستهدئ القطاع وحماس... لكن لا أحد يعرف كيف تنفذ فعليا. والمطلوب هو حل يدمج العسكري والمدني، بالتعاون مع الدول العربية من الخليج، يسمح بإعادة إعمار القطاع بالتعاون مع حماس أو بدونها إذا قررت إسرائيل الدخول للقطاع".
وبحسب بن يشاي، فإن الوضع في سورية أبسط، وأنه سيكون بإمكان روسيا إخراج إيران منها بعد سيطرة النظام على سورية كلها، لأن إيران والميليشيات التابعة لها هي التي تنفذ هذه المهمة.
تأثير إيراني في سورية
تنسف دراسة نشرها "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أمس، استنتاجات بن يشاي ومحللين إسرائيليين آخرين حول الوضع في سورية واحتمالات إخراج إيران منها، خاصة أن للأخيرة ميليشيات تنصاع لها وتندمج في صفوف قوات النظام المحلية.
وتقول هذه الدراسة إن "إيران، وليس روسيا، هي الجهة المهيمنة في سورية، وهي التي تُملي خطة ووتيرة قتال التحالف الداعم للأسد على الأرض، وتسيطر على المعابر الحدودية بين سورية وبين العراق ولبنان، وهي التي تحدد إعادة تنظيم مناطق ومجتمعات بموجب اعتبارات طائفية. ولإيران تأثير، حاسم أحيانا، على تحديد أولويات القتال أثناء المشاورات بينها وبين روسيا والأسد".
وبحسب الدراسة، التي أشار معداها، أوريت بلروف وأودي ديكل، إلى أنها تعتمد على خطاب وتقديرات نشطاء وصانعي رأي عام في سورية، وجرى التحقق منها بواسطة وثائق وصور وشهادات ميدانية وتحليلات خبراء، فإن سير عمليات التحالف الداعم للنظام يجري على النحو التالي: "يصل أولا المستشارون الإيرانيون إلى منطقة، ويتحققون من الإمكانيات العملانية (العسكرية) واحتمالات النجاح باحتلالها؛ بعد ذلك يلتقون مع المندوبين الروس من أجل تنسيق القتال البري مع العمليات الجوية؛ وفي المرحلة التالية يتم إرسال القوات المقاتلة – قوات النظام والمليشيات الشيعية تحت قيادة إيرانية - إلى العملية العسكرية؛ وتتم محاصرة وعزل المنطقة التي سيتم تحريرها؛ تبدأ العملية العسكرية بضربات جوية تنفذها القوات الجوية الروسية والسورية، إلى جانب إطلاق نيران مدفعية ثقيلة؛ بعد ’تليين’ مواقع المتمردين، تتوغل القوات البرية وتحتل المنطقة. وفي موازاة ذلك تجري مفاوضات حول اتفاقيات استسلام، بقيادة روسيا، مقابل قيادة المتمردين".
وتابعت أنه "بموجب المفهوم الإيراني، فإنه مطلوب الدمج بين عدة محاور عمل من أجل الحفاظ على نظام الأسد، وهو أداة مركزية في التأثير الإيراني، إلى جانب السيطرة الجغرافية والأدائية في سورية، كمرحلة نحو السيطرة على ’الهلال الشيعي’ وإنشاء ممر بري يربط إيران بالبحر المتوسط". وعددت الدراسة هذه المحاور: 1. محور "العامود الفقري" لسورية الذي يتشكل من المدن المركزية في وسط وشمال البلاد ويتركز فيه معظم السكان ومراكز الحكم والاقتصاد؛ 2. محور التواصل الإقليمي، حيث تعمل إيران على السيطرة على مناطق تضمن تواصلا جغرافيا بين هذه المناطق والبحر المتوسط؛ 3. المحور اللوجستي، وهو محور التزويد المركزي من إيران إلى سورية عبر العراق، ومن ثم إلى لبنان؛ 4. المحور التجاري، وستتم إعادة فتحه بعد أن أغلق لسنوات، ويمر في "العامود الفقري" من شمال سورية إلى جنوبها، والطريق الدولي من تركيا إلى سورية إلى الأردن ودول الخليج، بهدف ترميم اقتصاد سورية ويرفع جزءا من العبء الاقتصادي عن إيران.
مبنى القوة الإيرانية في سورية
عددت الدراسة الإسرائيلية مبنى القوة العسكرية الإيرانية في سورية، بما يلي:
1. فيلق القدس التابع لحرس الثورة الإيرانية، ويتراوح عدد أفراده في سورية 2000 – 5000 مقاتل؛ 2. قوات الدفاع الوطني السوري، وهي ميليشيا أنشأتها إيران وموّلتها وسلحتها، في بداية الأزمة السورية وعندما كان جيش النظام على وشك الانهيار، وتشمل 90 ألف متطوع سوري من الطائفتين العلوية والشيعية بالأساس ومن طوائف أخرى؛ 3. قوات الدفاع المحلية، وهي وحدات شرطى تعمل في مجال الحراسة والإدارة المدنية للمليشيات المحلية، وعدد افرادها قرابة 50 الفا؛ 4. ميليشيات شيعية من أفغانستان وباكستان، وقد جندت إيران أفرادها – ما بين 10 إلى 15 ألفا – وهذه قوة هجومية مركزية ضد المعارضة المسلحة؛ 5. حاميات شيعية، أفرادها من العراق ولبنان، تفعلها إيران كقوات تدخل سريع في مناطق القتال، ووصل عدد أفرادها إلى حوالي 30 ألفا؛ 6. حزب الله، الذي يتواجد ما بين 4000 – 9000 من مقاتليه في سورية؛ 7. مرتزقة لبنانيون وعراقيون، لا ينتمون إلى المليشيات المختلفة المذكورة أعلاه، ويعودون إلى موطنهم بعد تنفيذ مهمات.
وقالت الدراسة إن "إيران ليست معنية بأن تسيطر بشكل علني في سورية، وإنما أن تعمل وتؤثر من وراء الكواليس، وخلال ذلك غرس القوات الموالية لها في دوائر الحكم المدنية والعسكرية في الدولة. ولذلك، فإنه من الصعب تقدير عدد الوكلاء الإيرانيين في سورية بشكل دقيق. ووفقا لتقارير عديدة في وسائل الإعلام السورية، وخاصة في المواقع الالكترونية للمعارضة وشبكات التواصل الاجتماعي، فإن القوات الغيرانية، حزب الله والمليشيات الشيعية، تشارك في القتال في جنوب سورية، فيما هم يرتدون الزي العسكري السوري".
وتابعت أن "إسرائيل، التي تحظى بتفوق استخباري في سورية، لا تبرز حتى الآن كشف وجود وكلاء لإيران والقوات الموالية لها في جنوب سورية. ويبدو أن إسرائيل تقدر أن هذه القوات لا تشكل تهديدا حقيقيا عليها، على الأقل في الفترة القريبة المقبلة، وتركز على منع تمركز قدرات إيرانية هامة – صواريخ، قذائف صاروخية، طائرات مسيرة، منظومات دفاع جوي وأسلحة متطورة – في سورية. ويبدو في هذه المرحلة أن إسرائيل تعتمد على أن روسيا ونظام الأسد سيهتمان بإبعاد قوات الحاميات الإيرانية عن حدودها، عندما يدركان أن التدخل الإيراني المتزايد وتوغلها إلى القوات السورية المحلية يقوض عمليا سيادة النظام".
وخلصت الدراسة إلى أنه "ثمة شك في ما إذا كان لدى روسيا والأسد القدرة الفعلية على إبعاد الوجود الإيراني عن الأراضي السورية، خاصة على ضوء اندماج ضباط إيرانيين ومقاتلين شيعة في القوات المحلية. وفي هذه الحالة، فإن خيار مهاجمة الوكلاء الإيرانيين سيكون بيد إسرائيل حتى بعد أن يستكمل الأسد سيطرته على هضبة الجولان السورية (غير المحتلة)".